كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولكنها تفارق الدين من جهة أنه متى هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصية كما في الإرث بخلاف الدين فإنه يبقى بحاله.
ثم قال: {آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا} قال أبو البقاء {أيهم} مبتدأ و{أقرب} خبره، والجملة في موضع نصب بـ {تدرون} وهي معلقة عن العمل لفظًا لأنها من أفعال القلوب. وأقول: من الجائز أن لا تكون من أفعال القلوب بل تكون بمعنى المعرفة، وكان {أيهم} مفعولة مبنيًا لحذف صدر الصلة نحو {لننزعن من كل شيعة أيهم أشد} [مريم: 69] قال المفسرون: هذا كلام معترض بين ذكر الوارثين وأنصبائهم، وبين قوله: {فريضة من الله} ومن حق الاعتراض أن يناسب ما اعترض بينه ويؤكده. فقيل: هذا من تمام الوصية أي لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون، أم أوصى منهم أم من لم يوص. يعني أن من أوصى ببعض ماله فعرّضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعًا وأحضر جدوى ممن ترك الوصية فوفر فعرّضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا ذهابًا إلى حقيقة الأمر، لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلًا قريبًا في الصورة إلا أنه فانٍ فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى، وثواب الآخرة وإن كان آجلًا إلا أنه باقٍ فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى. وقيل: عن ابن عباس أن الابن إن كان أرفع درجة من أبيه في الجنة سأل أن يرفع أبوه إليه فيرفع وكذلك الأب إن كان أرفع درجة من ابنه سأل أن يرفع ابنه إليه. فأنتم لا تدرون في الدنيا أيهم أقرب لكم نفعًا لأن أحدهما لا يعرف أن انتفاعة في الجنة بهذا اكثر أم بذلك. وقيل: قد فرض الله الفرائض على ما هو عند حكمة، والعقول لا تهتدي إلى كمية تلك التقديرات. فلو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم لكم أنفع فوضعتم أنتم الأموال في غير موضعها. وقيل: المراد كيفية انتفاع بعضهم ببعض في الدنيا من جهة الإنفاق والذب عنه، فلا يدري أن الابن سيحتاج إلى أن ينفق الأب عليه أو الأب سيفتقر إلى الابن. وقيل: المقصود جواز أن يموت هذا قبل: ذلك فيرنه وبالضد، والقول هو الأوّل. {فريضة من الله} نصبت على أنها صفة تقوم مقام المصدر المؤكد أي فرض الله ذلك فرضًا {إن الله كان عليمًا} بكل المعلومات فيكون عالمًا بما في قسمة المواريث من المصالح والمفاسد {حكيمًا} لا يأمر إلا بما هو الأحسن الأصلح.
قال الخليل: كان هاهنا منخلع عن اعتبار الاقتران بالزمان، لأنه تعالى منزه عن الدخول تحت الزمان ولكنه من الأزل إلى الأبد عليم حكيم. وقال سيبويه: إن القوم لما شاهدوا علمًا وحكمة تعجبوا فقيل لهم: إن الله كان كذلك أي لم يزل موصوفًا بهذه الصفات. هذا واعلم أن الوارث إما أن يكون متصلًا يالميت بغير واسطة أو بواسطة. وعلى الأول فسبب الاتصال إما أن يكون هو النسب أو الزوجية. فهذه ثلاثة أقسام: الأوّل قرابة التوالد الفروع والأصول وهو أشرف الاتصالات لعدم الواسطة ولكثرة المخالطة ولغاية الألفة والشفقة، ولهذا قدّم في الذكر. ويتلوه في الشرف القسم الثاني لمثل ما قلنا ولهذا أردفه بالقسم الأول وذلك قوله: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم} إلى قوله: {توصون بها أو دين} ثم بيَّن أحوال القسم الثالث وهو الكلالة في قوله: {وإن كان رجل يورث كلالة} فما أحسن هذا النسق. ولما جعل في الموجب النسبيّ حظ الرجل مثل حظ الأنثيين، فكذلك جعل في الموجب السببي وهو الزوجية حظ الزوج ضعف حظ الزوجة. وقد نبه في الآية على فضل الرجال حيث ذكرهم على سبيل المخاطبة ثمان مرات، وذكرهن على الغيبة أقل من ذلك. ثم الواحدة والجماعة سواء في الربع والثمن، ولا فرق في الولد بين الذكر والأنثى، ولا بين الابن وابن الابن، ولا بين البنت وبنت الابن، ويخرج منه ولد البنت لأنه لا يرث. وههنا مسألة. قال الشافعي: يجوز للزوج غسل زوجته لأنها بعد الموت زوجته بدليل قوله تعالى: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم} وقال أبو حنيفة: لا يجوز لأنها ليست زوجته، ولو كانت زوجته لحل له وطؤها لقوله: {إلا على أزواجكم} [المؤمون: 6] وأجيب بأنه لو كانت زوجته له لكان قوله: {ما ترك أزواجكم} مجازًا. ولو كانت زوجة مع أنه لا يحل له وطؤها لزم التخصيص وإذا تعارض المجاز والتخصيص فالتخصيص أولى كما بين في أصول الفقه. وكيف لا وقد علم في صور كثيرة حصول الزوجية مع حرمة الوطء كزمان الحيض والنفاس ونهار رمضان وعند اشتغالها بالصلاة المفروضة والحج المفروض وعند كونها في العدّة عن الوطء بالشبهة. وأيضًا حل الوطء ثابت على خلاف الأصل لما فيه من المصالح، وعند الموت لم يبق شيء من تلك المصالح فعاد إلى أصل الحرمة، أما حل الغسل ففيه مصالح فوجب القول ببقائه. واختلفوا في تفسير الكلالة فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن الكلالة فقال: أقول فيه برأيي فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه. الكلالة ما خلا الوالد والولد. وعن عمر رضي الله عنه: الكلالة من لا ولد له فقط.
وعنه في رواية أخرى التوقف. وكان يقول: ثلاثة لأن يكون بينهم الرسول صلى الله عليه وسلم لنا أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها: الكلالة والخلافة والربا. وقيل: الكلالة القرابة من غير جهة الولد والوالد. ومنه قولهم: ما ورث المجد عن كلالة كما تقول: ما صمت عن عيّ. قال الفرزدق:
ورثتم قناة الملك لا عن كلالة ** عن ابني مناف عبد شمس وهاشم

والمختار الصحيح من الأقوال قول أبي بكر لأن الكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوّة من الإعياء. قال الأعشى:
فآليت لا أرثي لها من كلالة ** ولا من وجى حتى تلاقي محمدًا

فاستعيرت للقرابة من غير جهة الوالد والولد لأنها بالإضافة إلى قرابة الأصول والفروع كلالة ضعيفة. ويحتمل أن يقال: هي من الإكليل لأنهم يحيطون بالإنسان إحاطة الإكليل بالرأس بخلاف قرابة الولادة فإنها تذهب على الاستقامة كما قال:
نسب تتابع كابرًا عن كابر ** كالرمح أنبوبًا على أنبوب

وأيضًا فإنه تعالى قال في آخر السورة {قل الله يفتيكم في الكلالة أن امرؤا هلك ليس له ولد} [الآية: 176] فاحتج عمر بذلك. والجواب أنه تعالى حكم في تلك الآية بتوريث الإخوة والإخوات حال كون الميت كلالة. ولا شك أن الإخوة والأخوات لا يرثون حال وجود الأبوين، فيلزم أن لا يكون الميت كلالة حال وجود الأبوين. وأيضًا إنه تعالى ذكر حكم الولد والوالدين في الآيات المتقدمة، ثم أتبعها ذكر الكلالة. وهذا الترتيب يقتضي أن يكون الكلالة من عدا الوالدين والولد، ثم الكلالة قد يجعل وصفًا للمورث. والمراد الذي يرثه من سوى الوالدين والأولاد، ويمكن أن يحمل عليه بيت الفرزدق أي ما ورثتم الملك عن الأعمام بل عن الآباء، فسمىلعم كلالة وهو هاهنا مورث لا وارث. وقد يجعل وصفًا للوارث ومنه قول جابر: مرضت مرضًا أشفيت منه على الموت فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني رجل لا يرثني إلا كلالة وأراد به أنه ليس له والد ولا ولد. ويقال: رجل كلالة وامرأة كلالة وقوم كلالة لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر كالدلالة والجلالة، وإذا جعلت صفة للوارث أو المورث كانت بمعنى ذكي كلالة كما يقال: فلان من قرابتي أي من ذوي قرابتي. ويجوز أن يكون صفة كالهجاجة والفقاقة يقال: رجل هجاجة وفقاقة كلاهما بالتخفيف أي أحمق. وقوله تعالى: {وإن كان رجل يورث} فيه احتمالان: الأول وهو قول عطاء والضحاك: أن يكون مأخوذًا من ورث الرجل يرث فيكون الرجل هو الموروث منه، وينتصب كلالة على الحال أو على أنه خبر كان و{يورث} صفة رجل. ويجوز أن يكون مفعولًا له أي يورث لأجل كونه كلالة. والثاني وهو قول سعيد بن جبير أن يكون مبنيًا للمفعول من أورث فالرجل حينئذٍ هو الوارث، وينتصب كلالة على الوجوه المذكورة.
قيل: ما السبب في أنه قال: {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة} ثم قال: {وله أخ} فكنى عن الرجل ولم يكن عن المرأة؟ والجواب أنه إذا جاء حرفان في معنى واحد جاز إسناد التفسير إلى أيهما أريد، وجاز إسناد إليهما أيضًا. تقول: من كان له أخ أو أخت فليصله أو فليصلها. والترجيح بالتذكير للشرف معارض بالتأنيث للقرب. وإن قلت: فليصلهما جاز أيضًا. ولعل التوحيد والتذكير في الآية أولى إما لأن الرجال في الأحكام أصل والنساء تبع لهم، وإما بتأويل أحد المذكورين. ثم إن المفسرين أجمعوا على أن المراد من الأخ والأخت هاهنا الأخ والأخت من الأم، ويدل عليه ما نسب إلى أبيّ وسعد بن أبي وقاص: {وله أخ أو أخت من أم فلكل واحد منهما} أي من الأخ والأخت {السدس} من غير مفاضلة الذكر على الأنثى. هذا على الاحتمال الأوّل وهو أن الرجل مورث منه. وأما على الاحتمال الثاني وهو أن الرجل وارث فالضمير عائد إلى الرجل وإلى واحد من أخيه أو أخته. والمعنى مثل الأوّل، لأنك إذا قلت السدس له أو لواحد من الأخ أو الأخت على التخيير فقد سوّيت بين الذكر والأنثى. ثم قال: {فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث} فبيّن أن نصيبهم كيفما كانوا لا يزداد على الثلث. وقد يسند الإجماع إلى هذا بيانه أنه قال في آخر السورة {قل الله يفتيكم في الكلالة} [النساء: 176] وأثبت للأختين الثلثين وللإخوة كل المال، وههنا أثبت للإخوة، والأخوات السدس عند الانفراد، والثلث عند الاجتماع، فعلم أن المراد من الإخوة والأخوات هاهنا غير المراد من الإخوة والأخوات في تلك الآية. فالمراد هاهنا الإخوة والأخوات من الأم وهم الأخياف، وهناك الإخوة والأخوات من الأب والأم وهم الأعيان، أو من الأب وهم أولاد العلات. فالكلالة وإن كانت عامة لمن عدا الوالد والولد إلا أنها في الآية خاصة كما بيننا {غير مضار} حال أي يوصي بها وهو غير مضارّ لورثته. ومن قرأ {يوصى} مبنيًا للمفعول فعامل الحال محذوف يدل عليه المذكور أي يوصى إذا علم أن ثمة موصيًا والضمير فيه وهو ذو الحال يعود إلى رجل على تقدير أنه المورث، أو إلى الميت الدال عليه سياق الكلام أي إن كان الرجل وارثًا وضرار الورثة بأن يوصي بأزيد من الثلث أو بالثلث فما دونه ونيته مضارة الورثة ومغاضبتهم وقطع الميراث عنهم لا وجه الله. وقد يقر بأن الدين الذي كان له على غيره قد استوفاه، أو يبيع شيئًا بثمن بخس، أو يشتري شيئًا بثمن غال، كل ذلك لئلا يصل المال إلى الورثة. قال العلماء: الأولى بالإنسان أن ينظر في قدر ما يخلف ومن يخلف، ثم يجعل وصيته بحسب ذلك فإن كان في المال قلة وفي الورثة كثرة لم يوص، وإن كان بالعكس أوصى على قانون العدالة وقد روي عن عكرمة عن ابن عباس: أن الإضرار في الوصية من الكبائر، ويروى مرفوعًا وعن شهر بن حوشب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة فإذا أوصى وحاف في وصيته ختم له بشر عمله فيدخل النار. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة» وعنه «من قطع ميراثًا فرضه الله قطع الله ميراثه من الجنة».
{وصية من الله} نصب على المصدر المؤكد أو على أنه مفعول {مضار} أي لا يضار وصية من الله وهو الثلث فما دونه بزيادته على الثلث، أو وصية من الله بالأولاد لا يدعهم عالة بإسرافه في الوصية {والله عليم} بمن جار في وصيته أو عدل {حليم} عن الجائر لا يعاجله بالعقوبة، وفيه من الوعيد ما لا يخفى.
ثم أكد الوعيد بالترغيب والترهيب فقال: {تلك حدود الله} وهو إشارة إلى جميع ما ذكر في السورة من أحكام اليتامى والوصايا والمواريث وغيرها، وهي الشرائع التي لا يجوز للمكلف أن يتجاوزها ويتخطاها إلى ما ليس له بحق. وقوله: {ومن يطع الله} {ومن يعص الله} عام في هذه التكاليف وفي غيرها، كما أن الوالد يقبل على ولده ويؤدبه في أمر مخصوص، ثم يقول احذر مخالفتي ويكون مقصوده منعه من معصيته في جميع الأمور. وإنما قيل: {يدخله} و{خالدين} حملًا على لفظ من ومعناه. وانتصب {خالدين} و{خالدًا} على الحال. ولا يجوز أن يكونا صفتين لـ {جنات} و{نارًا} لأنهم جريا على غير من هماله، فكان يلزم حينئذٍ أن يقال: خالدين هم فيها وخالدًا هو فيها. قالت المعتزلة: الآية تدل على القطع بوعيد الفساق وخلودهم وذلك أن التعدي في جميع حدود الله محال، لأن من حدوده ترك اليهودية والنصرانية والمجوسية، والتعدي فيها هو الإتيان بجميعها وذلك محال. فإن المراد تعدّي أي حدّ كان، ولأن الآية مذكورة عقيب قسمة المواريث فيكون المراد التعدي في هذه الحدود، وأجيب بما مر من أن ذلك مشروط عندكم بعدم التوبة، فأي مانع لنا من أن نزيد فيه شرطًا آخر وهو عدم العفو. وبأن الآية لعلها مخصوصة بالكافر لأن جميع المعاصي يصح استثناؤها من هذا اللفظ أي: ومن يعص الله في كذا وفي كذا. وذلك لا يتحقق إلا في حق الكافر. نعم يخرج منه ما يخصصه دليل عقلي كما ذكرتم من استحالة الجمع بين اليهودية والنصرانية، ومما يؤكد كون الآية مخصوصة بالكافر أن قوله: {ومن يعص الله ورسوله} يفيد كونه فاعلًا للمعاصي.
فلو كان المراد من قوله: {ويتعد حدوده} أيضًا ذلك لزم التكرار فوجب حمله على الكفر. وإن سلم أن المراد هو التعدي في حدود المواريث فلعل المراد من التعدي هو اعتقاد كونها لا على وجه الحكمة والصواب ويلزم منه الكفر والله أعلم بمراده. اهـ.